سورة الطلاق - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} [الطلاق: 4] كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات، فقيل: {أَسْكِنُوهُنَّ} قال صاحب الكشاف: (من) صلة، والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم.
قال أبو عبيدة: {مّن وُجْدِكُمْ} أي وسعكم وسعتكم، وقال الفراء: على قدر طاقتكم، وقال أبو إسحاق: يقال وجدت في المال وجداً، أي صرت ذا مال، وقرئ بفتح الواو أيضاً وبخفضها، والوجد الوسع والطاقة، وقوله: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهذا بيان حكم المطلقة البائنة، لأن الرجعية تستحق النفقة، وإن لم تكن حاملاً، وإن كانت مطلقة ثلاثاً أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً، وعند مالك والشافعي، ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سكنى لك ولا نفقة».
وقوله: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر، وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر، وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل، وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} قال عطاء: يريد بفضل معروفاً منك، وقال مقاتل: بتراضي الأب والأم، وقال المبرد: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، والخطاب للأزواج من النساء والرجال، والمعروف هاهنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار، وقيل: الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي، وقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي في الأجرة: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} غير الأم، ثم بين قدر الإنفاق بقوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ} أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك، ونظيره: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءَاتَاهَا} أي ما أعطاها من الرزق، قال السدي: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وقوله: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة، فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسراً وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم، ثم في الآية مباحث:
الأول: إذا قيل: (من) في قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما هي؟ نقول: هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن (لكم) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه.
الثاني: ما موقع {مّن وُجْدِكُمْ}؟ نقول: عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له، أي مكاناً من مسكنكم على قدر طاقتكم.
الثالث: فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} نقول: فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل، فنفى ذلك الظن.


{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} الكلام في كأين قد مر، وقوله: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا} وصف القرية بالعتو والمراد أهلها، كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] قال ابن عباس: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا} أي أعرضت عنه، وقال مقاتل: خالفت أمر ربها، وخالفت رسله، فحاسبناها حساباً شديداً، فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب، وهو قوله: {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي عذاباً منكراً عظيماً، فسر المحاسبة بالتعذيب.
وقال الكلبي: هذا على التقديم والتأخير، يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً، والمراد حساب الآخرة وعذابها {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي شدة أمرها وعقوبة كفرها.
وقال ابن عباس: عاقبة كفرها {وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} أي عاقبة عتوها خساراً في الآخرة، وهو قوله تعالى: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمداً فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم، وقوله تعالى: {فاتقوا الله ياأولى الألباب} خطاب لأهل الإيمان، أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله، وقوله: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً} هو على وجهين:
أحدهما: أنزل الله إليكم ذكراً، هو الرسول، وإنما سماه ذكراً لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما: أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل رسولاً.
وقال في الكشاف: {رَّسُولاً} هو جبريل عليه السلام، أبدل من {ذِكْراً} لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، والذكر قد يراد به الشرف، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وقد يراد به القرآن، كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [النحل: 44] وقرئ (رسول) على هو رسول، و{يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات} بالخفض والنصب، والآيات هي الحجج فبالخفض، لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام، ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده.
وقوله تعالى: {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم.
وفي الآية مباحث:
الأولى: قوله تعالى: {فاتقوا الله ياأولى الألباب} يتعلق بقوله تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا} أم لا؟ فنقول: قوله: {فاتقوا الله} يؤكد قول من قال: المراد من قرية أهلها، لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه، وقيل قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} مشتمل على الترهيب والترغيب.
الثاني: الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم: {فاتقوا الله}؟ نقول: للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك.
الثالث: كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى: {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ} أن يقال: ليخرج الذين كفروا؟ نقول: يمكن أن يكون المراد: ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى} [آل عمران: 55] أي وإذ يقول الله، ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم.
ثم قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً}.
قوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله} فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب، وقرئ {يُدْخِلْهُ} بالياء والنون، و{قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} قال الزجاج: رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وقيل: {رِزْقاً} أي طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ونظيره {رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} [البقرة: 201].


{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
قال الكلبي: خلق سبع سموات بعضها فوق بعض مثل القبة، ومن الأرض مثلهن في كونها طباقاً متلاصقة كما هو المشهور أن الأرض ثلاث طبقات طبقة أرضية محضة وطبقة طينية، وهي غير محضة، وطبقة منكشفة بعضها في البحر وبعضها في البر وهي المعمورة، ولا بعد في قوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} من كونها سبعة أقاليم على حسب سبع سموات، وسبع كواكب فيها وهي السيارة فإن لكل واحد من هذه الكواكب خواص تظهر آثار تلك الخواص في كل إقليم من أقاليم الأرض فتصير سبعة بهذا الاعتبار، فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل، وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التفسير فذلك من جملة ما يأباها العقل مثل ما يقال: السموات السبع أولها: موج مكفوف.
وثانيها: صخر.
وثالثها: حديد.
ورابعها: نحاس.
وخامسها: فضة.
وسادسها: ذهب.
وسابعها: ياقوت، وقول من قال: بين كل واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل واحدة منها كذلك، فذلك غير معتبر عند أهل التحقيق، اللهم إلا أن يكون نقل متوتر (اً)، ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنه ما هو وكيف هو. فقوله: {الله الذي خَلَقَ} مبتدأ وخبر، وقرئ {مِثْلَهُنَّ} بالنصب عطفاً على {سَبْعَ سموات} وبالرفع على الإبتداء وخبره {مِّنَ الأرض}. وقوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} قال عطاء يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء، وقال مقاتل: يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى، وقال مجاهد: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلاً وقال قتادة: في كل سماء من سماواته وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه، وقرئ {يُنَزّلٍ الأمر بَيْنَهُنَّ} قوله تعالى: {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرئ {لِيَعْلَمُواْ} بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض، وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من قبل ما تقدم ذكره {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء، فتبارك الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

1 | 2